كيمياء الحبّ" للشَّاعر الكردي السُّوري مصطفى سعيد..
جديدٌ بنكهة الزيتون العفريني والعبق البيروتي ..
ولا يخلو من أصداء التقليد
ضمن سلسلة "دواوين الحبّ"، الصَّادرة عن دار "رشاد برس" في بيروت، جاء ديوان الشَّاعر الكردي السُّوري مصطفى سعيد، موسوماً بـ"كيمياء الحبّ"، في 108 صفحات من القطع المتوسّط، طواها الشَّاعرُ على 25 نصّا، جامعها مناخات وأجواء الرُّومانس، ومفرِّقها مستوى بيان المخيال، وآلام مخاض المراس. ولأن التأثُّر من طبائع الحياة، وبديهيَّات التجارب الإبداعيَّة، فالتقاط أصداء قبّاني والماغوط ودرويش، وقليل من أدونيس، كان جدّ سهل، في "كيمياء الحبّ"، وفي أمكان عدَّة. وما الشِّعرُ أو النثر، إلاَّ إعادة إنتاج لتراكم قراءات الشَّاعر، من منابع سابقيه أو مجايليه، بصيغ ودباجات مجدِّدة ومتجدِّدة، متجاوزة لسابقاتها، ما يكسبها صفة الإبداع. وعليه، لا حرج على مصطفى سعيد، إنْ كان مختبره الشِّعري، في "كيمياء الحبَّ"، قد لاحت فيه ملمح لهذه القامة أو تلك، من التي أتينا على ذكرها. فتلك القامات، لا يمكن لها أن تكون إلاَّ مؤثِّرة، بعد أن كانت هي أيضاً، في بداياتها، متأثِّرة. لكن، ما يمكن تسجيله على سعيد في جديده هذا، هو أن نصوص "كيمياء الحبّ"، أتت عاديَّة، خفيضة الدهشة، دون أن تفقد شاعريتها. هذا القول يتأتَّى من أنّ هذه النصوص، هي نتاجُ اعتلالات واعتلاجات واهتزازات ونوباتِ ذاتٍ شاعرة، تمتلك حساسيَّة، مؤمولٌ منها الأفضل والأجود. وإذا كانت ميزة هذا الديوان، هو إدراج صور فوتوغرافيَّة، التقطتها عدسة الشَّاعر، وأنَّ تلك الصور، غير متماهيَّة بالضرورة مع النصوص، بدلاً من إدراج منتقيات سريعة، كما جرت العادة، إلاَّ أنَّ بعض الصور الفوتوغرافيَّة تلك، كانت أقوى وأكثر بلاغة وعمقا من بعض القصائد. وعليه، باعتقادي، وانبطاعي، أنَّ أقوى القصائد الواردة في هذا الكتاب كانت أربع؛ "قبل الهذيان بوثبة"، "ظلّ وقرميد"، "الأجنبي السرمدي"، "وداع بلا داع". يعني، وكأنَّ الشَّاعر، أراد أن تكون مطلع وخاتمة الديوان، أنيق اللفظ والصورة والعمق، وباقي النصوص، لزوم الحشر والحشو!. وأهدى الشَّاعر مصطفى سعيد، وليده الشِّعري إلى "أدونيس. بكل تواضع.." حسب ما كتب.
في قصيدة "قبل الهذيان بوثبة"، يتبدَّى اعتصار الذات الشَّاعرة ألماً واغتبراباً، والبوح بمآسي ترحالها. وذلك عبر لغة حساسة، وصور شعريَّة، قوام بعضها التضاد، تعبيرا عن تناقضات الشَّاعر، وتمزُّقاته وأحزانه، إذ يقول:
بين شفتيّ حقيبة... يكمن وجودي..
وشروقُ غُروبي.
***
قبلنا بنصف هَمٍّ.. بعدنا بقنطارِ ألم
وثبوا هارعين ومروا من هنا.. مُريدو الماء
كهنةُ الترياق..
شربوا من خوابيه قبلنا
كانوا يعفّرون وجوههم في حريق الحرفِ
قبل الهذيانِ بوثبة
يصنعون أسناناً من خزفِ الهمِّ
أرواحُهم المعقوفة
سنابِلهُم القصيّة نحو المعنى
ليعصروا يابسةَ القصيدة
المحصيَّة بعدد حباتِ البردِ
ظلي ظلٌّ يصلي.. لِيؤمه الماءُ ذاتهُ
كان يسند الغيمة عند عتباتِ الشفق
ليُدركَ غواية النورِ الذي لا يمكن أن يراه
في محّارةٍ هالكة بين السماء والعشبِ
ووسط هذا الغمَّ المديد والألم الفسيح، يُعلي الشَّاعر بيان عشقه، بقلبٍ بريٍّ أعمى، لا يرى إلاَّ الحبيبة، من عطرها، وهي تنثر ماء بداياته على ماء نهاياته، والحلمُ، لمَّا يزل، حريقاً شديد السعير والالتهاب، إلى ما لا نهاية. وكأنّه يشي بأنَّ مقدوره، حاله تلك، عاشقاً يصطلي دون موت. وأن يعيش جحيماً أزليَّاً وقوده الحزن والغربة والعشق:
قلبي.. الأعمى الرعويُ.. يراكِ.. من رائحتكِ
تستفيقينَ من قعر تنهيدة..
فتنثرين ماءَ نهاياتي على ماءِ بداياتي..
يبقى حُلمي.. خريفٌ يحترق.. يَستدينُ منهمُ الصقيعَ.. حتى النهاية.
ومن القصيدة الثانيَّة "آيتان"، يظهر الملمح النزاري (نسبة إلى نزار قبّاني) واضحاً، إلى جانب وجود شذر واهن للسيّاب، في التكرار، وانتقاء المفردة، وتقنيَّة الصوغ، وتوظيف الميثولوجيا كعشتار، مع استخدام مفردات؛ المطر والياسمين...الخ:
عيناكِ ..عيناكِ آيتان
لا تقبلان أيَّ تأويلٍ أو تفسير..
إلا بأنكِ ابنة المجراتِ.. وابنة هذا الأثير..
عيناك.. عيناكِ آيتان
عيناكِ مدرستا السبولِ
تثيرانِ الأقزام السبعة.. والساحرة والأمير..
وكذا الحال في قصيدة "اصطكاكُ أرواحهِم" وقصيدة "ملامح"، إذ لا يألو القارئ جهداً في التقاط بصيص من ملامح محمد الماغوط. حتّى أن سعيد، وظَّف عبارة الماغوط؛ "إلى الجحيم/ ألم تشبعوا تصفيقاً بعد"، من ديوانه "شرق عدن غرب الله"، خاتماً بها قصيدته تلك. ولعلّ الصورة الشعريَّة السلسة، الأكثر لفتاً لي في قصيدة "ملامح" هي؛ "يدٌ واحدة لا تصفِّق. يدٌ واحدةٌ تصفع". وكنموذج على الحشو والتكرار، المضرِّ بالنصّ، كرَّر الشاعر عبارة "يا أمي" خمس عشرة مرَّة في قصيدة "أمّي التي روّضتني"، وفي قصيدة "أبي الذي يأباه الإباء"، كرّر عبارة "أبي الذي" تسع مرّات، ما زاد من منسوب التقريريَّة والخطابيَّة في النصّ، على حساب الكياسة البلاغيَّة. وتتبدّى التقليديَّة والشروح في قصيدة "حمامة رماديَّة"، إذ نرى الشَّاعر، يكرِّر عبارة "حمامة رماديَّة" بعد العنوان مباشرة، دون هامش أو مسافة. وكأنَّه أخذ العنوان، من أوّل جملة من النصّ. وأمّا عن الشروح غير اللازمة، نراه يقول: "حمامةٌ رمادية.. بلونِ الحُلم والدمعِ. لا بيضاء لا سوداء". هذه الجملة الأخيرة، لا لزوم لها البتّة. لأن اللون الرمادي، أساساً هو خليط الأبيض والأسود، فلا هو هذا ولا هو ذاك. والأجدى كان الاكتفاء بـ"حمامة رماديَّة بلون الحلم والدمع". وكذا يصبح منسوب البلاغة أعلى وأمكن. إذ يطغى على الحلم والدمع الغموض والضبابيَّة، وضياع الملامح والالتباس، أهو حلمُ فزعٍ أم فرحٍ أم حزن؟، أهو دمعُ فرحٍ أم حزن؟.. أمّ ماذا؟. وأمَّا قصيدة "مولاتي" التي كرّر فيها كلمة مولاتي تسع مرّات، فقد أتت وكأنّها من بواكير ما يكتبه الشّاعر في مطالع تجربته، من حيث السطحيّة والبساطة وضعف المراس وهزال التجربة، إذ يقول:
"موَلاتي/
مولاتي/ أمُ آهاتي وثوراتي
صانعةُ حكاياتي وانتصاراتي
رفيقةُ ذكرياتي، ملكةٌ على عرش ريشتي
مولاتي/ مولاتي.. مولاةُ الشموش
مولاةُ البحورِ.. مولاةُ الحقولِ والزهورِ والأنهرِ والقصيدةِ
مولاةُ الفجرِ والليلكِ والحرير والحُلمِ والغيمة
مولاةُ الطيورِِ والسهوة، مولاةُ الموالين لحلمك"..
ففي هذا المقطع فقط، استخدم الشاعر واو العطف 10 مرَّات، وكرّر كلمة مولاة ست مرَّات، ما خلخل النصّ، وزاد من التراخي البلاغي والشعري فيه، لحدٍّ كبير. ولَعمري أن هذا النصّ، هو أردأ ما احتواه هذا الديوان. وآمل أن أكون مخطئاً.
خامس النصوص في هذا الديوان، كان "كيمياء الحبّ"، الذي اختاره الشاعر، وفضَّله على باقي النصوص ليكون عنوان الديوان. وعلى أن الاستعانة باسم أحد العلوم التطبيقيَّة "كيمياء" في الشعر، ليس بالأمر الملفت. حتّى أن عبارة "كيمياء الحبّ" مطروقة من قبل علم النفس. إذ سبق لطبيب أمريكي أن أصدر كتاباً حمل هذا الاسم. كما سبق للكثير من النقّاد أن استخدموا كلمة "كيمياء" في دراساتهم وبحثوهم، من قبيل "كيمياء الأدب"، "كيمياء الشعر"...الخ، إلاّ أن استخدام سعيد لهذه الكلمة في عنوان قصيدته، وعنوان ديوانه، لا يخلو من أهميّة. لكن، كان من المتوّقع آناء استخدامه لها، ألاَّ يضع نفسه تحت وطأة قاموس علم الكيمياء، واستيقاء الكثير من مفردات كـ: المحاليل، الأوكسجين، المعادن (التوتياء والزنك والبلاتينِ والتيتانيوم والذهب والرصاص والفضة والكبريتِ المنصهر)، البروتونات، الزئبق، تفاعلات ذرات، كثافات، الجزئيات، الانشطار...الخ في القصيدة. وكأنّ الشّاعر، إذا كتب قصيدة بعنوان "فيزياء الحبّ"، فهو مضطرّ، تماهياً مع العنوان، أن يستخدم مفردات كـ: الجاذبيّة، الوزن، الطاقة، الشدّة، الأمبير، الواط، السالب، الموجب، السرعة...الخ. أو إذا كتب قصيدة بعنوان "هندسة الحبّ" فهو مضطرّ لأن يستخدم مفردات كـ: الزاوية، القوس، الدائرة، المربع، المثلثّ، البيكار، المسطرة، شبه المنحرف، المستطيل، الوتر، القاعدة، الارتفاع، المساحة، المحيط...الخ. وكذا الحال إذا كان عنوان القصيدة "فلسفة الحبّ" أو "بيولوجيا الحبّ" أو "سياسة الحبّ".. وهكذا دواليك. الحقّ أنّ سعيد لم يكن مجبراً على انتقاء كل تلك المفردات من قاموس الكيمياء، حتّى يثبت لنا أنّ نصّه منجسم ومتوافق ومتماهٍ مع العنوان. خلاف ذلك، كان عليه أن يمنح كلمة كيمياء، طاقة دلاليّة أخرى، دون الرجوع لكل تلك المفردات التي استخدمها في متن قصيدته تلك. ولعلّ أجمل صورة شعريّة في نصّ "كيمياء الحبّ"، إلى جانب صور أخرى، كانت "سأحرثُ هذا الليلِ بمعولٍ من ماءٍ/ لأسكب هذا العقل المعتقل لدى الأوفياء الذين لم يعد لهم أيّ وجود".
وفي قصيدة "ظل وقرميد" ثمّة سوحان خصيب وعميق في الشعر، وفيضٌ من الدلالات والالتباسات الشهيَّة، تنمُّ عن مراسٍ عتيد. وكّأنَّ كاتب هذا النصّ، ليس هو كاتب "مولاتي". حيثُ يبدو التأمُّل، والتقشُّف في الكلام، وقلَّة أحرف العطف، والصورة الجذلة، البعيدة عن الشروح، والطارحة للأسئلة، حاضرة بقوّة في هذه القصيدة:
"جهز بناتكِ لوأدهن قرب الجنة
لتَمُوء الأفكارُ وحيدةً بعيدةً لا رجعةَ فيها
سماءٌ مؤقتة لا تروي عطش حقولنا
الأرض الجافةُ متراميةٌ قربها
لاشيء سوى الخرائِطُ النارية..."
يبقى القول إن الشّاعر مصطفى سعيد، باح بهويته القوميَّة وآلام وعذابات قومه، في سياق نصوصه، دون الانزلاق نحو الجلجلة والتعصُّب. فحافظ على النفح والنفس الإنساني في نصوصه. وبان أن أرض الطفولة وتعبيراتها لم تفارق مخيال الشَّاعر، وأنها معينه وزاده في غربته. تلك الذاكرة الكرديَّة الأليمة، وجدت لنفسها متنفّساً في نصوص مصطفى سعيد، في أماكن عدّة. كما لم يخفِ الشاعر فخر انتمائه لتلك البقاع الزيتونيَّة الغنّاء، المهضومة الحقوق، والمقموعة الهويّة.
نقلاً عن صحيفة الأيام الجزائرية
http://www.elayem-dz.com/index.php?option=com_content&task=view&id=61144&Itemid=57
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق