بقلم : محمود سعدو
صباحٌ جديد نقي تسلل إلى شرفات ( الشعر) موشىّ بحروفٍ وكلماتٍ اندست بين طيات ديوان ( كيمياء الحب ) للشاعر السوري الكردي مصطفى سعيد. حيث هناك ثمة خلقٌ جديد للشعر العربي الحديث بقالبٍ فكري مكشوفٍ تارةً وضوح الشمس وتارةً بغموضٍ محير. فالحداثة عند مصطفى سعيد تأتي بتأنٍ وحذر واضحين من خلال مزجه لبعض قصائده بالمفردات الماغوطية ومن خلال اتكاله في بعض نصوصه على البساطة.
تحرك الشاعر مصطفى سعيد من أرضية صلبة تحمل الفكر الذي فككه بين يديه وراح يستلهم من أحلامه التي بقيت وستبقى عالقة بين طيات أهدابه وأثوابه الكثير الذي لم يبح به. والكثير الذي يتدفق من خلال إلهامه الذي انعكس على شعره في هذا الديوان, إذاً فالديوان يرتكز على محورين أساسيين هما ( الفكر – الحلم ).
أما الفكر فهو الذي لا يستغني عنه الأديب أبداً وإلا أصبحت كتاباته أشبه بقصبة فارغة تعصف بها الريح بسرعة, فقد جاءت معظم قصائده على قاعدة فكرية واضحة المعالم يلمحها القارئ بسرعة عند أول لمسة لشعره حتى لو كان إنساناً عادياً ما له بالشعر سيجد الفكرة تمد يدها له, وهذا ما يسعى له الشاعر كما بدا من خلال مفرداتٍ ممزوجة بالألم ورحيل الماضي بجمالياته, فهذا الرحيل خلف مكانه كلمة, تلك الكلمة اشتعلت بين أصابعه لتعلن مولد الشعر عنده. فعندما يقول في قصيدة :
( انبلاجُ النباح )
تصرخُ برغبةٍ صماء
تتعطر من الوادي السحيق تراباً وأنيناً لا ينوب
تُأكلُ الحمام أوراق الشجرِ
تتغذى على ندى الانتظارِ
حتى النباحِ الوحيدُ
الذي يعلو من وشوشة الليل يضيعُ..
يتهجينَ الرغبات العارياتِ
يزرعنَ اليقطينَ في العراء..
يعددنَ أصابعهنَ ليتأكدنَ أنهنَ لازلنَ
تحت سقف الإله..
هناك تعبير عن الألم الشفيف الذي يلامس سطح الشعور فما تحت ثمة ألم بصور رائعة واضحة لم نراها سابقاً, يتصاعد شيئاً فشيئاً إلى ما فوق سطح الشعور عند الشاعر وانعكس بقالب جميل لطيف تعبره الروح وتجففه لتلتهم أشذاءه بسرعة كما تجفف ملامس النور قطرات الندى وتعكسها إلى اشتعال الحياة بحلوها ومرها وأفراحها وآلامها.
نعم نجد بكل بساطة أن الشاعر هو من يصرخ برغبةٍ صماء مكتومة الأنين وليست هي من تصرخ, تلك الأنثى التي اختبئ الشاعر خلف ظهرها وتقمص روحها وجعلها هي من تصرخ, تلك لفتة ذكية من الشاعر ليخفي دموعه ولكن ثمة انبعاث جديد للمياه يتصاعد من أعمق الأعماق ذلك الانبعاث المتمثل ( بالعطر) نعم وأي شيء أجمل من العطر ينوب عن أفراحنا ومن هنا نستطيع أن نلمس المحور الثاني وهو الحلم. فقد مزجه الشاعر مع الألم والفكر مزجاً لطيفاً فقرر به الإبداع وأثبته على قاعدة أساسية للخلود.
الديوان فكرة قوية تزاحم بمنكبين عريضين لتأخذ مكانها تحت شمس الأدب وتستحق الوقوف والتأمل بالجماليات المتناثرة بين القصائد التي بلغ عددها خمساً وعشرون قصيدة كل قصيدة تشي بزاوية من الشعور المغلف بالأنثى, رغم أنها ليست أساساً في بناء القصائد ككل ولكننا نجد بأنه لا غنى عنها وعن عينيها فلا بد أن تنسكب تلك العينين على الكلمات لتزيدها رونقاً وبريقاً تشد بيد القارئ لمتابعتها.
هناك توظيف جميل استخدمه الشاعر في القصائد هو توظيف الحاجة إلى الأنثى والحياة في خدمة الألم. الشتات. من خلال ذلك الخيط الحريري المتواري خلف الكيمياء في توظيفها الجديد للحب والرغبة الملحة في الانتشاء به وبعناصره الحتمية وعلاماته الرصينة وبين الحب الثابت أيضاً وعلاماته الرصينة. كل ذلك لم يكن ليمنعه عن التغني بالشتات المتأصل في قصيدته:
( شباكٌ يطل على الشتات )
كنا نستمعُ لسعالِ السماء
حين تقذفُ برقاً ورعداً
الناسُ ينطحون خواصر بعضهم
وهم يصعدون نحو النزولِ
يحضرُ معهم الفجرُ وبقايا الليل والخوار
كنا نبكي على الأموات
على القبور التي استوت مع الشواهدِ
ننحرُ الأضحية ونحتفل
نودعُ بعض الأعزاء بعد العزاء
في هذا المكان المذعور بالسكون الآن
اجتمع الناس والزمان
واتفقوا أن يتخاصموا
إلى الأبد الذي لا عقبَ لأبديته..
جميلة ومحلقة تلك الصورة / سعال السماء / قدرة كبيرة من الشاعر الذي عكس سعاله إلى السماء وتلك المقارنة بين سعاله وسقمه وسعال وسقم السماء , لكنه جاء ليؤكد أن سعال السماء وبرقها ورعدها يعد بالخير المؤجل الآتِ بكل تأكيد لينعش ويرعشَ الحياة.
محمود سعدو
شاعر وناقد سوري
01/09/2010